جسم الإنسان: خلقه الله في أحسن تقويم, قال تعالى:
﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾
[سورة البلد الآية: 8 - 10]
حواس خمس، أعضاء، وأجهزة، قلب, ورئتان، كبد، وكليتان، وعضلات، وأعصاب، وعظام، وشعر، ووجه، وجلد، شيء يحير العقول, قال تعالى:
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾
[سورة التين الآية: 4 - 5]
كما أن خلق الإنسان, كان في أحسن تقويم, جبلة النفس، هذه النفس البشرية لها جبلة، كيف أن الجسم له أجهزة، وأعضاء، وحواس, وخصائص، أعصاب حس، وأعصاب حركة، وجملة ودية، وجملة نظيرة الودية، ودماغ فيه مئة وأربعون مليار خلية، لم تعرف وظيفتها بعد، وثلاثمئة مئة ألف شعرة، ولكل شعرة شريان، وعصب، وعضلة، وغدة دهنية, وغدة صبغية، هذا التعقيد البالغ في جسم الإنسان, يقابله إعجاز في جبلة النفس، هذا الكلام ينطلق من قوله تعالى:
﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾
[سورة الشمس الآية: 7 -8]
وأتمنى أن يتتبع المؤمن آيات القرآن الكريم المتعلقة بجبلة النفس، فهذه الآية من هذا الموضوع .
ما فطرت عليها النفس البشرية :
طورة أو مجبولة -أو بالتعبير الحديث-: المبرمجة على أنها تعرف ذاتياً, خطأها من صوابها، خيرها من شرها، إحسانها من إساءتها، تقواها من فجورها بالفطرة، يؤكد هذا المعنى قوله تعالى:
﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾
[سورة القيامة الآية: 14 - 15]
هذه خصيصة .
أيها الأخوة, الإنسان يحاسب على هذه الفطرة التي فطره الله عليها، ولو لم يلتقِ لا بنبي، ولا رسول، ولا مرشد، ولا عالم، ولم يقرأ كتاباً، ولم يسمع شريطاً، جبلة نفسه أساسها أنها: تعرف استقامتها من انحرافها، معرفة ذاتية فطرية من دون معلم، وهذه الفطرة هي التي تعذب صاحبها, حينما ينحرف، مجبولة على الكمال, فإذا خرج الإنسان عن منصوص الكمال عذبته فطرته، وهذا عبر عنه علماء النفس بالكآبة .
مرض الكآبة: هو مرض شائع الآن بين معظم الناس، لأنهم خرجوا عن قوانين فطرتهم، وخرجوا عن منهج ربهم، ولأن أنفسهم مفطورة ومجبولة على حب الكمال، فإذا ارتكب الإنسان نقص يتألم .
يعني: أنت لو شاهدت إنسان يظلم إنسان, تتألم, مع أن هذا الظلم لم يقع عليك، لكن أنت مجبول جبلة أنك تحب الكمال، لو سمعت قصة عدل تطرب بها أشد الطرب، لو سمعت موقفا رحيمًا تطرب له أشد الطرب، لو بلغك موقف لئيم فيه قسوة بالغة تنزعج أشد الانزعاج.
من قوانين النفس البشرية
1-أنها تحب الكمال والجمال والنوال :
قال تعالى:
﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾
[سورة الروم الآية: 30]
((كل مولود يولد على الفطرة))
الفطرة أن تحب الكمال، الصبغة أن تكون كاملاً .
((يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم، فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها))
أحد قوانينها: أنها تحب المحسن، وتحب الجميل, وتحب الكريم، فالنفس جبلت على حب الكمال والجمال والنوال, هي من قوانين النفس، كل هذه قوانين .
2-أنها تخاف :
قانون آخر: أنها تخاف، موضوع درسنا اليوم .
الخوف: أحد خصائص النفس, جبلة جبلنا عليها، نخاف من فقد رزقنا، نخاف من فقد صحتنا, نخاف من فقد حياتنا، نخاف من أن يصاب أولادنا بمرض، نخاف من شقاء زوجي، نخاف من إذلال، نخاف من اضطهاد، نخاف من قهر, هذه فلسفة الخوف .
هذه حكمة الله من قانون الخوف في النفس البشرية :
أيها الأخوة, فلسفة رائعة جداً، الخوف: أحد البواعث الكبرى لطاعة الله، أحد البواعث الكبرى للتوبة لله عز وجل، أحد البواعث الكبرى للصلح مع الله، أحد البواعث الكبرى كي تساق إلى باب الله، إذا لم يخف الإنسان لا يتوب، إذا لم يخف لا يصلح عمله، إذا لم يخف لا يصطلح مع الله، فالخوف باعث، والله عز وجل يقول:
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾
[سورة المعارج الآية: 19]
يعني: هكذا خلقته، أنا خلقته خائف، شديد الخوف لمصلحته, قال تعالى:
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾
[سورة المعارج الآية: 19]
هذا الضعف في أصل خلقه ولمصلحته، لأنه يخاف يتوب، لأنه يخاف يعبد الله، لأنه يخاف يتحرّى الحلال، لأنه يخاف يبتعد عن الظلم، لأنه يخاف يبتعد عن الزنا، هذا الذي لا يخاف إنسان غير سوي، إنسان خرج عن قواعد فطرته، تخاف الله بقدر معرفتك, طيب لا سمح الله، ويعصي الإنسان الله عز وجل بقدر ضعف معرفته, فكلما اشتدت معرفتك بالله عز وجل، اشتد خوفك منه .
أشد الناس خوفاً من الله: هو رسول الله، لأنه أعظمهم معرفةً به، وأقل الناس خوفاً من الله: هو الجاهل، والخوف بقدر العلم .
لا حظ الطبيب, حينما يبالغ في غسل الخضار والفواكه، لأنه يقول لك: هناك وباء، هناك حمى مالطية، هناك وجبة التهاب سحايا، هناك أمراض كثيرة جداً، فعلمه الشديد يدفعه إلى المبالغة في تنظيف الفواكه والخضار، وكل إنسان يخاف بقدر علمه، فالخوف إحدى خصائص النفس البشرية، خصيصة أساسية .
هذه الحالة التي ينبغي أن يجمعها المؤمن في قلبه :
أيها الأخوة, المؤمن لا بد من أن يستقر في قلبه خوف يحمله على طاعة الله، ولا بد من أن يستقر في قلبه محبة لله, كي يقبل عليه من باب الرجاء، ولا بد من أن يستقر في قلبه تعظيم لله .
((يا رب, أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحب عبادي إلي؛ تقي القلب نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني, وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقه، قال: يا رب, إنك تعلم أنني أحبك, وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي, ذكرهم بآلائي كي يعظموني، وذكرهم بنعمائي كي يحبوني، وذكرهم ببلائي كي يخافوني))
فإذا كان في قلبك تعظيم مع حب، مع خوف، فهذه حالة طيبة كاملة، في قلب المؤمن.
أيها الأخوة الكرام, ومن رحمة الله بنا: أنه يسوق لنا الشدائد كي نخافه، ويسوق لنا الرحمات كي نحبه، ويسوق لنا الآيات كي نعظمه، وهذه تربية الله للإنسان، الآيات الباهرة كي تعظمه، التعظيم مطلوب .
تعليق لطيف :
هناك تعليق لطيف جداً وهو: أن الحب وحده من دون تعظيم, لا يحملك على طاعته، الإنسان قد يحب أمه محبةً شديدة، لشدة عطفها عليه، ومع ذلك قد لا يطيعها، أما إذا اقترن الحب بالتعظيم, حملك على الطاعة، لذلك ربنا عز وجل قال:
﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ﴾
[سورة الحاقة الآية: 30 - 32]
لماذا؟ قال:
﴿إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾
[سورة الحاقة الآية: 33]
هو يؤمن بالله، ولكن لا يؤمن بالله العظيم، فالآلاء من خلالها تعظم الله عز وجل, يعني: أنت قد تلتقي بإنسان شكله لا يعجبك، لا يملأ عينك، أما إذا علمت أنه يملك أكبر ثروة فرضاً، أو إذا علمت أنه يحتل أعلى منصب، أو إذا علمت أنه يحمل أعلى شهادة، رغم شكله الذي لا يعجبك، وحجمه الصغير، وقد يكون دميمًا، تقف أمامه في منتهى الأدب، أنت تعرف عنه الشيء الكثير.
أيها الأخوة, كلما ازدادت معرفتك بالله عز وجل، ازداد تعظيمك له، والتعظيم يحملك على طاعته .
قال تعالى:
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾
[سورة هود الآية: 123]
هذا هو التوحيد :
أخواننا الكرام, التوحيد شي رائع جداً: أن ترى يد الله وحدها تعمل، ألا ترى مع الله أحداً، لا شريكًا، ولا رجلاً قويًّا، ولا رجلاً مخيفًا، ولا رجلاً يفعل ما يهدد، كلهم دمى بيد الله عز وجل، حتى الأقوياء منهم, عصي بيد الله عز وجل.
لا إله إلا الله وحده لا شريك له
له الملك و له الحمد و هو على شيئ قدير
( الدكتور محمد راتب النابلسي-بتصرف)