5‏/6‏/2015

سر اختيار الجزيرة العربية لرسالة الإسلام

MACAA

سر اختيار الجزيرة العربية لرسالة الإسلام والنبي الخاتم-
ثَمَّةَ أسرارٌ كثيرة لا يستطيع العلماءُ حصرها في اختيار الله - عزَّ وجلَّ - لتكون الجزيرة العربية مَهْدَ آخر رسالات السَّماء، وآخر إشارات بزوغ الفجر الجديد.
قال الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، فمعنى قوله: {وَسَطًا}؛ أي: وسطًا في المكان، وسطًا في الخِلقة، وسطًا في المشاعر والأحاسيس، وسطًا في الأخلاق، بل وسطًا في الدعوة إليه - سبحانه - ووسطًا في كل شيء.

هذا الوسط أو هذه الوسطيَّة لها أسرار كامنة، تُكتشف حينًا بعد حين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

هذا الاختيار الإلهي - وكفى به سببًا وسرًّا - لا يَمنعنا - على أيَّة حالٍ - من أنْ نبحثَ، ونخوض غمار تلك الأسرار، التي وراء هذا الاختيار. 

- بحكم موقع الجزيرة العربيَّة كانت بيئة هادئة بعيدة عن الأفكار الهدَّامة "المبتكرة" عقديًّا، تنعم بتلك الأفكار السطحيَّة البدوية الساذجة، حال كونها بعيدة عن تلك التيارات الفكرية المنحرفة، التي كانت سائدة في روما وفارس واليونان، وتلك ميزة مهمة.

قال أحد رهبان الكنيسة: كانت أطراف المدينة - أي: روما - جميعًا ملأى بالجدل ترى ذلك في الأسواق، وعند باعة الملابس، وصيارفة النقود، وباعة الأطعمة، فأنت تريد أن تبدل قطعة من ذهب، فإذا بك في جدل عمَّا خُلق، وعما لم يخلق، وأنت تريد أن تقف على ثمن الخبز، فيجيبك مَن تسأله: الأب أعظم أم الابن؟ والابن خاضع له، وأنت تسأل عن حمَّامك، وهل ماؤه ساخن، فيجيبك غلامك: لقد خلق الابن من العدم

-ظلت شبه الجزيرة العربية، وكأنَّها واحة حصينة آمنة من الغزو، إلاَّ في بعض أطرافها، آمنة من انتشارِ الدَّعوة الدينية، مسيحية أو مجوسيَّة، إلا في قليل من قبائلها، وهذه ظاهرة قد تبدو في التاريخ عجيبة، لولا ما يفسرها من موقع بلاد العرب ومن طبيعتها، وما للموقع والطبيعة من أثر في حياة أهلها، وفى أخلاقهم وميولهم ونزعاتهم

- يقول الإمام/ أبو الأعلى المودودي - رحمه الله -: "وإذا نظرت نظرة في جغرافية العالم، علمت أنَّ بلاد العرب هي أنسب أرض للرسالة العالمية، فهي بين آسيا وأفريقيا، وأقرب ما تكون لأوروبا، ولا سيَّما بالنسبة لذلك الزَّمان الذي كانت فيه أمم أوروبا الراقية المتمدنة تسكُن في الأقسام الجنوبية منها، وبعدها عن بلاد العرب يعدل بُعد الهند عن هذه البلاد، ثم إذا قرأت ما قالت كتب التاريخ عن ذلك الزَّمان، عرفت أنه ما كانت في الدُّنيا أمة أنسب وأجدر بهذه الرِّسالة العالمية من الأُمَّة العربية، فقد أخذت أسباب الوهن والانحلال تُدرك سائر الأمم الراقية والقُوى العظيمة، بعد أن أقامت الدنيا وأقعدتها، بينما كانت الأمة العربية  - إذ ذاك - موفورة الجأش حامية الدم، وكان نمو المدنية، وارتقاء الحضارة وانتشار الترف في الأمم الأخرى - قد أفسد عليها عاداتها وخصالها.

أمَّا الأمة العربية فما كانت إلى ذلك العهد على مدنية تجعلها ناعمة البال، مولعة بالبذخ والترف، مائلة إلى السفائل والرذائل، وكانت هذه الأُمَّة بمنجاة تامة في القرن السادس الميلادي، من الآثار السيئة المنتشرة في أمم الأرض المتمدنة الأخرى، وكان فيها من الصِّفات الإنسانية العالمية جميع ما يُمكن أن يكون في أمة لم تصدمها المدنية بعواصفها، وكان العرب شجعانًا مقاديم، لا يقيمون وزنًا للرهب والخوف، باسطي الأيدي، قائمين بالعهود، أحرار الفكر والنَّظر، يُحبون الحرية والاستقلال، ويُؤثرونهما على كل شيء آخر، ولم تكن أعناقهم خاضعة لأمة أجنبية، وكانت عاطفة الاستماتة في الذود عن أعراضهم تجري في عروقهم، وكانوا يعيشون عيشة ساذجة لا تَعرف التَّرف والتنعم، لا ريب أنَّه كانت فيهم كثير من السيئات والمنكرات.

ولكن الحقَّ أنَّه ما كان منشأ هذه السيئات إلاَّ أنه ما خلا فيهم رسول من الله منذ ألفين وخمسمائة سنة؛ أي: منذ زمن إبراهيم - عليه السلام - إلى بعثة النبي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما قام فيهم زعيم يزكِّيهم، ويُعنى بإصلاح أخلاقهم وتعليمهم المدنيَّة والحضارة، وكانت الجاهليَّة مُنتشرة فيهم لما عاشوا عيشة الحرية في الصَّحراء قرونًا من الزَّمان، وقد بلغ تَماديهم في هذه الجاهليَّة أنه لم يكُن لأحد ليقبلَ تهذيبهم وإخراجهم من ظلمات البهيمية إلى نور الإنسانيَّة.

ولكنهم كانوا مع كل ذلك أهلاً لأنْ يُقيموا الدنيا ويقعدوها، إذا عُنِيَ بإصلاحهم وتعليمهم رجل عبقري، وقاموا على أثر دعوته وتعليمه بغاية سامية ورسالة شريفة في الدُّنيا، فإلى مثل هذه الأمة الفتية الباسلة المقدامة، كانت تَحتاج الرِّسالة العالمية لنشر كلمتها وتعميم دعوتها في سائر أرجاء الدُّنيا ونواحيها، ثم انظر نظرة في اللغة العربيَّة، فإنَّك إذا قرأت هذه اللغة، ودرست آدابها، ظهر لك - من دون أدنى ارتياب - أنَّه لا يُمكن أن تكون في الدنيا لغة أنسب من هذه اللغة لأداء الأفكار العالية، والإفصاح عن أدق معاني العلم الإلهي، والتأثير في القلوب، فبالجمل الصغيرة من هذه اللغة تؤدي الموضوعات المهمة، وتكون قوية التأثير في القلوب، إلى مثل هذه اللغة كانت تحتاج معاني القرآن الكريم، فمن حكمة الله البالغة، ورحمته الشاملة بعباده إذًا أن اختار أرض العرب على غيرها للنبوة العالمية"

- ويقول الشيخ/ إبراهيم شاهين - حفظه الله: "إنَّ الله مهد لهذا الدِّين باختيار تلك البقعة المباركة، فحماها بالبحارِ الحاكمة، حتَّى إذا جاء الإسلام، حماهُ من الحكومات والإمبراطوريات القويَّة، فكان مانعًا مائيًّا كبيرًا جدًّا، ومَحْضنًا طبيعيًّا رائعًا، ثم ترك الجزء الأعلى منفتحًا حتَّى يصل الخير منها إلى غيرها، إنه الجزء الذي ستنطلق منه الحضارة الإنسانية يمنة ويسرة تغذي العالم، ثم إنَّ الله جعل أرضَها صحراواتٍ ليس فيها شيء؛ حتَّى لا تكون مطمعًا للدول الحاكمة التي حولها فيزهدون فيها؛ ولذلك لما ظهر البترول صارت مطمعًا لكل طامع، وقد أخبر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن أرض العرب كانت مروجًا وأنهارًا[12]، ثم جاءها التصحر والقحل، والسر في ذلك لكي تحتفظ بنفسها، كالمادة الخام، حتى إذا جاء الإسلام نهضوا به؛ ولذلك كانت تلك البلاد بلا أي معللات حضارية، ثم إن الله اختار هذا المكان لتخرج منه أمة دعوية، فإن الله استخرجها لشيء لم يكن موجودًا في الأمم؛ ولذلك لم تكُن أمة صناعية، ولم تكن كذلك أمَّة زراعية، فدل ذلك على أن الهدف الأسمى أنْ تكون أمة دعوية؛ لأنَّ العالم يحتاج إلى الهدى؛ لذلك كانت المهمة الأولى هي مهمة الدعوة، وهذا هو الدور التاريخي لهذه الأمة

- الأسرار العلمية لاختيار الجزيرة العربية "أو مكة على وجه خاص"

يقول دكتور/ زغلول النجار - حفظه الله -: "ومن الأسرار العلمية مركزية مكة المكرمة للكون، وفي ذلك يقول المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كانت الكعبة خشعة على الماء، فدحيت منها الأرض))[16]، والخشعة: أكمة لاطئة بالأرض، والجمع خشع، يروى عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قوله: ((دحيت الأرض من مكة، فمدها الله - تعالى - من تحتها، فسميت أم القرى))[17]، وذكر كلٌّ من ابن عباس وابن قتيبة - رضي الله عنهم أجمعين - أنَّ مكة المكرمة سميت بأمِّ القرى؛ لأنَّ الأرض دحيت من تحتها؛ لكونها أقدم الأرض.

ويأتي العلم في أواخر القرن العشرين؛ ليؤكدَ لنا أن أرضنا غمرت في مرحلة من مراحل خلقها غمرًا كاملاً بالماء، ثم شاءت إرادة الله - تعالى - أن يصدع قاع هذا المحيط الغامر بعدد من الخسوف الأرضية، التي انبثقت منها ثورة بركانيَّة عنيفة ظلت تُلقي بملايين الأطنان من حممها فوق قاع هذا المحيط الغامر؛ لتكونَ سلسلة جبلية فوق ذلك القاع، كانت أول قمة برزت منها فوق الماء هي أول يابسة تعرفها الأرض، وكانت على هيئة جزيرة بركانية صغيرة تشبه العديد من الجُزُر البركانيَّة التي تملأ مُحيطات الأرض اليومَ، من مثل جزر اليابان والفلبين وأندونيسيا وهاواي، وكانت هذه الجزيرة الأولى هي أرض مكة المكرمة.

وباستمرار النشاط البُركاني نَمَت هذه الجزيرة البُركانيَّة الأولية بالتدريج، بواسطة عملية الدَّحْوِ - أي: الإضافة والنمو عن طريق الثَّورات البُركانية المتلاحقة - حتَّى تكونت اليابسة على هيئة قارة واحدة، تعرف باسم "القارة الأم".

ثم شاءت إرادة الله - سبحانه وتعالى - أن يمزق هذه القارة الأم بواسطة شبكة من الصدوع والخسوف الأرضية، التي مزقتها إلى القارات السَّبع المعروفة لنا اليوم، والتي استمرت في الزحف مُتباعدة عن بعضها البعض، حتَّى وصلت إلى أوضاعها الحالية، ولا تزال تزحف إلى يومنا هذا، وحتى نهاية لا يعلمها إلا الله.

وفي كل الحالات ابتداء من اليابسة، وهي قارة واحدة، وبعد تفتتها إلى القارات السبع، وبقائها أقرب إلى بعضها البعض من أوضاعها الحاليَّة، وهي في أوضاعها الحالية ظلت مكة مركزًا لليابسة، ولا تزال القارات السبع تتحرك ببطء إلى نهاية لا يعلمها إلا الله، محتفظة بوسطية مكة المكرمة.

وفي مُحاولة علمية جادَّة لتحديد الاتجاهات الدقيقة للقبلة - أي: إلى الكعبة المشرفة - من المدن الرئيسة في العالم، وجد الأستاذ الدكتور/ حسين كمال الدين - رحمه الله رحمة واسعة - أنَّ مكة المكرمة تتوسَّط اليابسة؛ بمعنى: أنَّ اليابسة على سطح الأرض مُوزعة توزيعًا منتظمًا حول مكة المكرمة، وقد سبق أنْ أشارَ القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقول الحق - تبارك وتعالى - مخاطبًا خاتم أنبيائه ورسله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: 92]، وقوله - سبحانه -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]، وإذا جمعت هاتان الآيتان الكريمتان مع قول الحق - تبارك وتعالى - مخاطبًا خاتم أنبيائه ورسله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]، اتضح لنا بجلاء أن المقصود بأم القرى ومن حولها هو الأرض جميعها.

كذلك أثبت الدكتور/ حسين كمال الدين - رحمه الله رحمة واسعة -: أنَّ الأماكن التي تشترك مع مكَّة المكرمة في نفس خط الطول 817َ 39 o   شرقًا، تقع جميعها على خط مُستقيم يتَّجه إلى الشمال والجنوب الجُغرافِيَّيْن الحقيقيَّين، وهي مزية ينفرد بها خط طول مكَّة المكرمة، وامتداده في الجانب الآخر من الكرة الأرضيَّة، ومعنى هذا الكلام: أنَّه لا يوجد انحراف مغناطيسي على امتداد خط طول مكة المكرمة، وهي مزية ينفرد بها دون جميع خطوط الطول الأخرى، وهو ما دفع الأستاذ الدكتور/ حسين كمال الدين - رحمه الله رحمة واسعة - إلى اقتراح خط طول مكة المكرمة؛ ليكون خط الطول الأساسي للكرة الأرضية، بدلاً من خط طول جرينتش الذي فرضته الإمبراطورية البريطانيَّة على العالم بحد السيف، ودفعه أيضًا - رحمه الله - إلى إعادة إسقاط خطوط الطول الأخرى بدءًا من خط مكة المكرمة؛ وذلك لتماثل خطوط الطول حوله تماثلاً مذهلاً، ولميل خط طول جرينتش حوالي 8.5 درجة إلى الغرب. 

ليس هذا فقط، بل إنَّ تدبُّر آيات القرآن الكريم، واستقراء عدد من أقوال المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُشير إلى أن مكة ليست فقط في مركز الأرض؛ بل هي في مركز الكون، وفي ذلك يروي مجاهد عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قوله: ((إن الحرم حرم مَنَاه من السموات السبع والأرضين السبع))[18]، و"مَنَاه" معناها: قصده، وفي أرضنا يغلف الخارج منها الدَّاخل، والكعبة المشرفة في مركز الأرض الأولى، ومن تحتها ست أرضين، وحول الأرض سبع سموات مُتطابقة يغلف الخارج منها الدَّاخل، خاصَّة أن الدراسات الفلكيَّة الحديثة قد أثبتت أنَّ كوننا كون منحنٍ، وهذه الملاحظة كافية للبرهنة على تطابُق كل من السموات السبع والأرضين السبع حول الكعبة المشرفة، ومن هنا كان حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي سبقت الإشارة إليه، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((البيت المعمور مَنَا مكَّة))[19]، ووصف ذلك البيت المعمور في حديث آخر بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((البيت المعمور بيت في السماء يقال له: الضراح، وهو بحيال الكعبة))، ويؤكد المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - تلك الحقيقة : ((يا معشر أهل مكة، إنَّكم بحذاء وسط السماء)).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق